الثلاثاء، 28 يونيو 2011

اسير في ايران







قال الباحث والمفكر السياسي‮ ‬العراقي‮ ‬نزار السامرائي‮ ‬إن الأسرى العراقيين لدى إيران والذين مكثوا سنوات طوال وراء أبشع صنوف معسكرات التعذيب التي‮ ‬عرفتها البشرية لم‮ ‬يحظوا بالحماية التي‮ ‬توفرها القوانين الدولية المعول بها في‮ ‬هذا الصدد،‮ ‬وعبر عن خشيته لحال المعتقلين المعارضين في‮ ‬إيران الذين لا تشملهم حتى تلك القوانين التي‮ ‬ضربت بها عرض الحائط‮.‬ كما استعرض السامرائي‮ ‬في‮ ‬صفحة جديدة‮ ‬يكتبها لـ»الوطن‮«‬،‮ ‬كل ثلاثاء،‮ ‬حال الخميني‮ ‬عقب تجرع بلاده للهزيمة أمام العراق حيث حاول المماطلة والتسويف زاعماً‮ ‬أن المهدي‮ ‬المنتظر شوهد وهو‮ ‬يقاتل إلى جانب البسيج وأفراد حرس الثورة ضد القوات العراقية،‮ ‬لكن هذا الزعم ارتد عليه عندما فشل في‮ ‬الرد على تساؤل مرير ظل‮ ‬يطرحه الإيرانيون،‮ ‬وهو لماذا خذلنا المهدي‮ ‬المنتظر إذا كنا على حق؟ لماذا لم‮ ‬يحارب معنا؟‮ ‬ وتابع السامرائي‮ ‬قائلاً‮ ''‬إنه على الرغم من أنني‮ ‬رجعت إلى العراق منذ نحو عشر سنين،‮ ‬بعد أن أمضيت عشرين عاماً‮ ‬من الأسر في‮ ‬إيران بمعسكرات لو عرفت بتفاصيلها وما‮ ‬يجري‮ ‬فيها‮ ''‬جمعيات الرفق بالحيوان‮'' ‬لطالبت بإلغائها ولعملت لإصدار تشريعات تحترم قيمة الحياة ليس للإنسان فقط،‮ ‬ولأصدرت بيانات الشجب والاستنكار لسلوك إيران المتوحش في‮ ‬تعاملها مع الأسرى وكأنهم فئران تجارب في‮ ‬مختبرات أعدت خصيصاً‮ ‬لتطوير برامج الحرب النفسية،‮ ‬لأن تلك المعسكرات لا تصلح حتى كزرائب للحيوانات،‮ ‬ناهيك عن عدم صلاحيتها لأسر فاق جميع التصورات في‮ ‬مدته وأساليب التعامل المعتمدة فيه،‮ ‬وبقي‮ ‬العالم عاجزاً‮ ‬عن فرض ضوابط جديدة تحد من ممارسات الآسرين وتعسفهم مع من سقط السلاح من‮ ‬يده ولم‮ ‬يعد قادراً‮ ‬على الدفاع عن نفسه،‮ ‬وتضع حداً‮ ‬لطول مدد الأسر التي‮ ‬تجاوزت جميع الحدود القانونية والإنسانية وفي‮ ‬ظل تعتيم قسري‮ ‬عما‮ ‬يجري‮ ‬خلف الجدران الموصدة‮''.‬ فالرسائل ممنوعة لأنها‮ ‬يمكن أن تعطي‮ ‬أملاً‮ ‬بالحياة‮ ‬يتجدد مع كل سطر‮ ‬يصل إلى الأسير من أب صابر أو أم مفجوعة أو زوجة ترملت قبل موت زوجها أو أبناء‮ ‬يتامى حقاً‮ ‬قبل رحيل المعيل الحنون،‮ ‬نعم كانوا‮ ‬يعاقبون الأهل أيضاً‮ ‬بقطع أخبار أبنائهم الأسرى عنهم في‮ ‬عقوبة جماعية لا مثيل لها،‮ ‬على الرغم من أن كل معمم كان‮ ‬يزور الأسرى‮ ‬يجتر كلمات باهتة بلا معنى‮ (‬أنتم ضيوف الجمهورية الإسلامية،‮ ‬وتتمتعون بحقوق أفضل مما‮ ‬يعطيكم الصليب الأحمر‮! ‬ويكرر على مسامعهم‮) (‬ولا تزر وازرة وزر أخرى‮) ‬إذن لماذا تعاقبون أهلنا بما فعلنا نحن؟‮.. ‬تسقط الكلمات والعبارات من على لسان المعممين من دون ملح أو خجل،‮ ‬ولا‮ ‬يتعرق معمم واحد مما‮ ‬يصب جلاوزته من عذابات نفسية وبدنية تخلف أوجاعاً‮ ‬لن تزيلها السنون على الأسرى من دون سبب واحد،‮ ‬إلا أنهم أصروا على الاحتفاظ بهويتهم الوطنية العراقية والقومية العربية،‮ ‬ولم‮ ‬يتحولوا إلى لحن القول الذي‮ ‬كان صفة المنافقين وسيبقى كذلك إلى أن‮ ‬يرث الله الأرض ومن عليها‮.‬ صور الرعب التي‮ ‬عشناها لن تزول من الذاكرة رغم نيلنا الحرية‮ ‬ فعلى الرغم من طول المدة فإن تجربة المعاملة المتوحشة التي‮ ‬لاقاها معظم الأسرى العراقيين على أيدي‮ ‬جلادين محترفين وقتلة بالأجر أو برغبة الانتقام،‮ ‬لا تريد أن تفارق مخيلتي‮ ‬ومخيلة الكثيرين ممن عاشوا المأساة بتفاصيلها،‮ ‬وحتى إذا هربت منها في‮ ‬يقظتي‮ ‬بإشغال نفسي‮ ‬بما‮ ‬ينفع أحياناً‮ ‬وبما لا‮ ‬ينفع أحياناً‮ ‬أخرى لمجرد الهرب من ذكريات تعتصر القلب وتترك أوجاعها في‮ ‬الضمير وربما تسبب أمراضاً‮ ‬كثيرة تبدأ بقرحة الجهاز الهضمي‮ ‬ولتمر مروراً‮ ‬عابراً‮ ‬بأمراض السكر والقلب،‮ ‬فإن مواجعها تلتصق بي‮ ‬في‮ ‬كابوسين رهيبين في‮ ‬الأسبوع على الأقل وربما‮ ‬يرتفع العدد كلما احتلت إيران حيزاً‮ ‬من اهتمام الصحافة العالمية أو الإقليمية وكأن مفاعل بوشهر سيقذف أشعة الموت فوق مياه الخليج العربي‮ ‬وأراضيه،‮ ‬وأحياناً‮ ‬تمر سحابة سوداء تمطر رعباً‮ ‬وهلعاً‮ ‬إسلاميين في‮ ‬كل ليلة،‮ ‬ومن أسوأ ما‮ ‬يصادفه الموجوع أن حلمه من قبيل أفلام الرعب،‮ ‬يبدو كشريط لا‮ ‬ينقطع أبداً‮. ‬أستيقظ وأحمد الله أنني‮ ‬كنت في‮ ‬كابوس فحسب،‮ ‬وأنني‮ ‬تحررت من أهوال الأسر من زمن طويل،‮ ‬وربما أحمّل زوجتي‮ ‬المسؤولية عن تقديم وجبة عشاء دسمة أدت إلى هذا الحلم الرهيب،‮ ‬وحينما أعود لمواصلة النوم فإن المشهد‮ ‬يتواصل من لحظة القطع ومهما تعددت حالات استيقاظي،‮ ‬الحلم‮ ‬يصر بعناد فارسي‮ ‬مقيت على استكمال حلقاته أو فصوله وكأنها عدالة إيرانية مقلوبة ولكنها مفروضة فأنا دفعت ثمن الدخول إلى صالة العرض وليس من العدل أن أخرج قبل نهاية الفيلم تماماً،‮ ‬من كثرة ما رددت على زوجتي‮ ‬محملاً‮ ‬إياها مسؤولية ما‮ ‬يحصل،‮ ‬أسهمت مع الطبيب بوضع برنامج‮ ‬غذائي‮ ‬ليلي‮ ‬صارم كي‮ ‬أتحرر من كوابيس الأسر،‮ ‬ولكن من دون جدوى،‮ ‬حتى بت أتساءل مع نفسي،‮ ‬متى‮ ‬يمكن أن تبدأ أحلامي‮ ‬الجديدة؟ وهل أستطيع حقاً‮ ‬مغادرة أجواء العذاب والجوع والبرد والشوق للأهل والأحبة والقلق من المجهول الذي‮ ‬ربط مصيرنا بمصير وطننا بهذه الحرب التي‮ ‬تلتحم في‮ ‬ساحاتها إرادة وطنية تدافع عن الأرض والعرض والانتماء إلى وطن له تاريخه وامتداداته القومية ويسعى بلا كلل لاحتلال موقع معلوم في‮ ‬عالم اليوم،‮ ‬وبين نوايا توسع شريرة تغير جلدها وشعاراتها عبر الفصول والمواسم وترتدي‮ ‬لكل زمن أزياءه،‮ ‬تتغير قبعة الشاه ولكن الرأس الذي‮ ‬تحتها‮ ‬يبقى هو هو،‮ ‬يرنو بنظرة طامعة بنهم وشهوة طاغية إلى الملك نحو حدوده الغربية،‮ ‬وكأن حدوده الأخرى‮ ‬غير موجودة أصلاً‮ ‬أو كأن الإسلام‮ ‬غير مكتوب له أن‮ ‬ينمو ويترعرع على الطريقة الإيرانية إلا في‮ ‬العراق ودول الخليج العربي،‮ ‬تجاهلوا أن إيران تحدها من جميع الجهات دول إسلامية،‮ ‬فلماذا لا ترغب بتصدير ثورتها إلا إلى العراق والبحرين ودول الخليج العربي‮ ‬الأخرى؟ هل‮ ‬يستطيع العلم الحديث التحكم بالأحلام؟ وهذه قضية ملحة لآلاف من الأسرى العراقيين الذين مازالوا‮ ‬يعانون كوابيس مرعبة‮! ‬عدت إلى أيام الأسر الأولى حينما كنت خلالها أتساءل عما إذا كان العلم الحديث قد توصل إلى مفاتيح تمكنه من السيطرة على أحلام النائم وهل‮ ‬يستطيع الإنسان التحكم بنوعية الأحلام التي‮ ‬يريد رؤيتها ويستبعد تلك التي‮ ‬لا‮ ‬يريد لها أن تمر عليه أم أن الوقت مازال مبكراً‮ ‬على مثل هذا الخيال‮.. ‬كم كنت أتمنى أن أرى أمي‮ ‬وأبي‮ ‬وزوجتي‮ ‬في‮ ‬أحلامي،‮ ‬فقد نسيت وجوههم في‮ ‬جو لم تعد لحالة التذكر فيه قيمة بقدر ما تبرز قيمة البحث عن عوامل للتعايش مع الواقع القائم،‮ ‬ولما عدت إلى بغداد تمنيت لو أن بمقدور الإنسان أن‮ ‬يصمم أحلامه،‮ ‬ولكن أن لا‮ ‬يأتي‮ ‬حلم جميل فليس على الإنسان أن‮ ‬يقتل نفسه كمداً‮ ‬لذلك،‮ ‬ولكن أن‮ ‬يأتي‮ ‬كابوس مرعب فمعنى ذلك أن خزين الذكريات المؤلمة لا‮ ‬يريد أن‮ ‬يطرح منها شيئاً‮ ‬وكأنها التصقت بالوجدان والضمير‮.‬ ما كنا نلاقيه من معاملة إسلامية على الطريقة الكسروية كان مغلفاً‮ ‬بأبهى العبارات الرشيقة ولكنها تحمل في‮ ‬جوفها سماً‮ ‬حلو المذاق حد الخديعة،‮ ‬في‮ ‬معسكرات معتمة رطبة حد الاختناق‮ ‬يقاسمنا فيها تفاصيل حياتنا القمل والذباب وحشرة الساس اللعينة التي‮ ‬يسميها الأسرى العراقيون‮ (‬تختة كالوس‮) ‬ويمتص دمنا وما‮ ‬يأتينا من أرزاق شاحبة وتعاني‮ ‬من سوء التغذية،‮ ‬لا تسد رمق طفل شب لتوه عن مرحلة الرضاع،‮ ‬القليل مما نحصل عليه من رز من أردأ الأنواع ومن أرخص المناشئ،‮ ‬وفاصوليا‮ ‬يابسة أفرغ‮ ‬الدود كثيراً‮ ‬من محتوياتها وأبقى لها قليلاً‮ ‬من القشور أو مرق‮ (‬السبزي‮) ‬المليئة بمختلف أنواع الحشائش البرية السام منها والنافع،‮ ‬وقطعة جبن للفطور تقاس بحجم إبهام الأسير مع نصف رغيف من الخبز تعرض لحملة ترشيق حازمة من طرف المسؤولين عن أرزاق الأسرى العراقيين التعساء الذين رمى بهم سوء الطالع ليكونوا بعد عزهم في‮ ‬وطنهم‮ (‬ضيوفاً‮ ‬على الجمهورية الإسلامية في‮ ‬إيران‮)‬،‮ ‬ويقلق راحتنا المحدودة هاجس من جميع المخاوف نهرب فيها إلى دواخل أنفسنا في‮ ‬حوارات صامتة ولننظر بعدها بعمق عبر المسافات البعيدة،‮ ‬ونحن مغمضي‮ ‬العيون شروق الشمس وغروبها في‮ ‬ساحات بغداد وأزقتها القديمة حيث‮ ‬يزدهر هناك ربيع إنساني‮ ‬دائم على الرغم من قسوة قيظ العراق وشتائه‮.‬ لماذا عذبنا الإيرانيون؟ هل كانوا‮ ‬يريدون نزع جلودنا أم‮ ‬أفكارنا؟ بعد هذه السنين لم أجد جواباً‮ ‬شافياً‮ ‬عن أسباب تعريضنا لكل ما لاقيناه من صنوف العذاب،‮ ‬خاصة وأن إيران تزعم ليل نهار أنها امتداد لدولة الإمام علي‮ ‬كرم الله وجهه،‮ ‬فهل هناك شيء من قيم الإمام علي‮ ‬في‮ ‬سلوك إيران مع الأسرى،‮ ‬وهل أن ضريبة الفكر الذي‮ ‬يحمله الإنسان والذي‮ ‬استعصى على الانتزاع من العقول تقتضي‮ ‬نزع الجلود وكسر الأضلاع والأطراف؟ هل نحن معارضة إيرانية خرجت على ولي‮ ‬الأمر فاستحقت الإخفاء في‮ ‬سجن إيفين،‮ ‬فإذا كنا أسرى حرب لا نحمل ضغينة للبلد الذي‮ ‬نحاربه،‮ ‬وإذا كانت القوانين الدولية توفر لنا الحماية الكاملة من سطوة الطرف الآسر،‮ ‬فلماذا أخضعتنا إيران لكل هذا البطش المنظم؟ ترى ماذا سيكون حال المعارضين الإيرانيين‮ ‬غير المشمولين بأية قوانين دولية

ليست هناك تعليقات: